07 ديسمبر 2021

ملامح التصوف في شعر الأديب الحكيم عبود بن عمرو الغتنيني

بعض ملامح التصوف في شعر الأديب الحكيم عبود بن عمرو الغتنيني

بقلم الأستاذالباحث / عادل حاج باعكيم

 

عرفنا من خلال تصفحنا لدواوين جماعة من شعراء حضرموت المتقدمين ملامح من روحانية التصوف الذي كان أولئك الشعراء يظهرونها جليَّة في سياقات أشعارهم المختلفة, وخلال بحثي في مساقات فكرة إعداد كتاب عن "شعراء التصوف الحضارم" التي كانت ومازالت تراودني منذ زمن, تصفحت الكثير من دواوين العلماء والأدباء الحضارم الذين منهم العلامة الحبيب علي بن محمد الحبشي والعلامة محمد بن محمد باكثير والعلامة محسن بن علوي السقاف والإمام عبدالله بن علوي الحداد والعلامة الحسن بن صالح البحر الجفري والقاضي الأديب عبدالله بن محمد باحسن والشيخ عبدالله بن أحمد الناخبي وغيرهم الكثير, في هذه الدواوين وغيرها ظفرت بأجزاءٍ من بغيتي في دراسة الحياة الفكرية لأهل حضرموت, فالشعر ديوان العرب أي مصدر تاريخهم ومسجِّل أحداث حياتهم .

تعد دراسة الملامح الصوفية في أشعار المتقدمين مدخلاً جيداً من مداخل دراسة الحياة الروحية والفكرية والعقائدية عند الشعوب, وقد رأينا من كتب عن الحياة الفكرية في حضرموت بعيداً عن التصوف أو بعيداً عن تأثير السلوك الصوفي في المجتمع أو قراءة ذلك التصوف من خلال تأثيرات فكرية خارجية دخيلة عن بنيان الفكر في المجتمع الحضرمي فكانت تلك الكتابات مزيجاً من الكدورات والانطباعات المغلوطة والخلط والخبط مما جعلها تكون معول هدم لا بناء في تسلسل الحياة الفكرية في حضرموت .

هناك عددٌ من الشعراء المتميزين في كل جزء من أجزاء حضرموت وللمشقاص شعراؤها المتميزون أيضاً كونها جزء لا يتجزأ من حضرموت . خلال بحثي المتواضع عن منطقة المشقاص وشعرائها وخاصة ونحن في صدد جمع كتاب سنفرد فيه بالدراسة جماعة من شعراء المشقاص الذين لهم تأثيرهم الواضح في المجتمع, وكنت حين جمعي لمادة هذا الكتاب "من شعراء المشقاص" أبحث وعن كثب في الأشعار التي استطعت الحصول عليها لأولئك الشعراء عن ملامح الحياة الروحية الصوفية والفكرية أيضاً لأكمل مادة الكتاب السابق الذكر "من شعراء التصوف الحضارم" فوجدت ضمن شعراء المشقاص بعضاً ممن أعطاني ما كنت أبحث عنه, منهم : الشيخ الفاضل عبدالله بن خالد باعباد والمقدم الأديب عبود بن عمرو الغتنيني .

أفرد الأستاذ العزيز فائز محمد باعباد كتاباً جيداً عن جده الشيخ عبدالله بن خالد باعباد أسماه (نفحات العوائد) جمع فيه الكثير من أشعاره التي كان التصوف الملمح البارز فيه, أما الأديب الفاضل المعلم عبود بن عمرو الذي أفردنا هذه العجالة لنبرز بعض ملامح شخصيته العاكسة للشخصية المشقاصية بشكل عام في زمانه القرن العشرين الميلادي .

ولد المعلم الفاضل المقدم الأديب عبود بن عمرو بن علي الغتنيني في منطقة سرار في مطلع القرن العشرين المنصرم, تلقى تعليمه على يد بعض أهل العلم في المشقاص منهم الشيخ عبيد بن عوضه والشيخ عمر بن محمد بن طاهر باحميد والشيخ برهان بن عبد الكبير باحميد, ثم افتتح في بيته مدرسة (عُلمة) لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم القراءة والكتابة ومبادئ علم الفقه, إضافة إلى هذا فهو إمام وخطيب المسجد الجامع بســرار ومأذونها الشرعي أيضاً, توفي ليلة الإثنين 19 ربيع الأول سنة 1406هـ الموافق الأول من ديسمبر 1985م فيرحمه الله رحمة واسعة .

جمع بعض الإخوان – حفظهم الله تعالى – ما تفرق من شعر هذا العلم البارز, فكان ذلك الديوان مزيجاً من الأدب والفكر والحياة, ويعدُّ – كما ندعي - مصدراً من مصادر تاريخ المشقاص, فقد ذكر فيه المعلم عبود بن عمرو إشارات يستطيع الحصيف من الكتَّاب أن يجمع منها مادة بحثية جيدة لدراسة جوانب متعددة من الحياة في المشقاص في القرن العشرين المنصرم, ومن خلال تصفحي العابر لذلك السِّفر الرائع وسماعي لبعض أبيات الحكمة التي تجري عذبة على ألسنة الشباب في أرض المسرة (منطقة سرار) تعرفت على ذلك الرجل الصافي العظيم فشدتني رغبة قوية إلى الخوض والتعرف عليه من الداخل وعن كثب فكان الديوان المذكور خير خبير أخبرني وأعلمني ماهية ذلك الرجل وكنهه وفكره .

من المعلوم أن لا تصوف من غير فقه والتزام بشريعة الله تعالى وأحكامه وتعاليم دينه الحنيف, فمن النماذج الشعرية التي يظهر فيها المعلم جوانب من علمه بالفقه والتزامه به قوله :

عا دين الاسلام كل مسلم لها مستعد

أركان الإسلام خمسة واضحة بالعدد

الأولى الشهادتين على المسلم بها نستعد

الثانية الخمس ودّيهــــــــا عليها عمد

الثالثة آدّاي زكاة من مــــــالك بـــود

وصوم رمضان رابع ركن يالمجتهد

والخامس الحج لازم لأهل ثروة وسد

يا محسن الفقة لأهل العلم درجة زيد

كل على نيّتـــــــه كل له ما قصــــد

يالله عسى نبلغ المقصود لا العزم جد

 

وقال في قصيدة أخرى :

قد سرت سائح من المارات لما عدن

ودرست جمع الكتب وفروضها والسنن

شفنا مضمر غني كل ما بغيته تمن

علـــم اللدنّي معي ما يمتلك بالثمــن

 

في المقطع الأول الذي من القصيدة التي مطلعها (بديت بك يا إلهــــي يا قوي يا صمــــد) والثاني من القصيدة التي مطلعها (وبديت بك يا إلهي عد ما الرعد حن) أظهر لنا المعلم معرفته الجيدة بعلم الفقه الذي كما قال أحد علماء حضرموت (آخر خطوة في الفقه أول خطوة في التصوف) وأيضاً يظهر لنا استغلاله للفرص التي تتوفر له للدعوة والتبليغ لتعاليم الإسلام والتنبيه على التمسك بها والعمل بأحكامها والتزام آدابها, وصرح في البيت الأخير بأنه ممن مَنَّ الله عليهم بالعلم اللدنِّي الذي ذكره ربنا بقوله (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنَّا علما) وهذا العلم هو من العلوم التي لا يتحصل عليه إلا أصحاب المقامات الرفيعة الذين فنوا أنفسهم في العبادة والعمل الخالص لله عز وجل .

​ومن ملامح تصوف المعلم عبود ما جاء في القصيدة التي قالها جواباً على قصيدة الشيخ علي بن حسن بن محمد باعباد التي صرح فيها بشوقه لزيارة قبر حبيبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم, وذكر فيها التوسل بالسلف وبجاههم الذي يقطع صميم الجبل - كما قال – وهذا الأمر هو من الأمور الصوفية الخالصة فالعقيدة والمحبة وحسن الظن بالصالحين هي من ملامحهم الصافية النقية التي تجعلهم يستشعرون المعية, قال المعلم :

ونزور قبر النبي المختار ختم الرسـل

صلّى عليه إله الحــق عز وجــل

وامر عبــاده يصلوا في كتابه نزل

ودعوا لنا بالجمالة في جميع الخصـل

يا أهل السلف جاهكم يقطع صميم الجبل

جدوا وجودوا نحن مثل من با فســل

حرر نهار الأحــد أربع ربيع منذ هل

واحد وخمسين أبيات المحـرر كمـل

 

​كما صرح في بعض شعره أن منطقته سرار فيها من الأولياء الصالحين الكثير فهي أرضهم وموطنهم وفيها مكمن أسرارهم, ذكر في هذه القصيدة أيضاً العشق والعاشقين ودواء القلوب وهذا مما يتميز به أهل التصوف والذوق الذين فنوا في حب الله ورسوله مما جعلهم يتلذذون بذلك الشوق, بل كان ذلك الشوق سبب وفاة بعضهم, فالمحبة تعد أصل التصوف النقي ومنبعه ومشكاته وهي التي يتغنَّى بها الصوفية في أشعارهم ويجعلونها أساساً في معرفة أحوالهم, فبقدر المحبَّة يكون المقام, وأتذكر الآن أبيات أشعر المتصوفين, وسلطان العاشقين, شرف الدين عمر بن علي بن الفارض التي يصرح فيها بشوقه الكبير وحبه العظيم وعشقه العميق لله عز وجل, كما يصرح أنه يشهده في كل أحوله وأن ذلك الحب عجن بلحمه ويجري في عظامه كالماء العذب النقي, قال :

خيالك بين طابقة الجفونِ

وحبُّك قد جرى في العظم مني

وذكرك في الخوافق والسكونِ

كجري الماء في قصب الغصونِ

 

إلى آخر القصيدة, أما أبيات المعلم عبود بن عمرو التي تحدثنا عنها فهي التي أرسلها إلى ابن شيخه ومعلمه الشيخ سالم بن برهان باحميد التي يقول فيها :

وســـــــرار فيها أسرار الأولياء ساكنين

وزرعها الهيل والكادي وعود البنيـــــن

شوفه شفاء القلب وثماره دواء العاشقين

 

ثم اعترف المعلم في تلك القصيدة بتتلمذه وأخذه عن المشايخ آل باحميد الذين يعدون من طبقات مشايخ المتصوفة بحضرموت, وذكر أنه من الواجب عليه بر مشايخه, وتذكر حينئذ الموت فهو في آخر عمره – كما قال - وأن هناك قبر وحساب وعقاب, واعترف بالتقصير والتوبة من ذنوبه, فقال (شيبة وتائب ولي في الوقت جملة سنين) مع أنه من أهل الصلاح كما نظن ويظهر لنا مما علمناه عنه, وفي كل أجزاء هذه القصيدة يظهر جلياً اهتمامه بالنصح والإرشاد وتسديد الدَّين الذي يستشعره بِرَّاً لآل باحميد الذين علموه فأخلص النصح بهذه القصيدة لولدهم سالم المذكور آنفاً, ثم ختم كلامه بالدعاء لنفسه بحسن الخاتمة والتلفظ بالشهادة عن الموت فقال (يا الله عسى خاتمة زينة شهادة يقيــن), وهذه الخصائص : تعظيم المشايخ وبرِّهم والفناء فيهم والاعتراف بالذنب والتقصير والإخلاص في النصح والإرشاد ورجاء حسن الخاتمة وطلبها دائماً وبإلحاح من صفات ومميزات أهل التصوف الذين قدروا الله حق قدره فظهر ذلك في أحوالهم وأعمالهم, فقال المعلم عبود في آخر تلك القصيدة المتقدمة الذكر :

خذها نصيحـــة تفيدك يا الفتى قع تقيـــن

لا بد من درس وتعلّم ســـأل عارفيــــن

والعفو منـك ومن أهـلك عبارة وديـــن

وشيوخـنا برهم واجب كما الواجبيـــن

لو كان عادي مطوّل في هوى العاشقين

با زيّد النول با طلّــع مع طامسيـــــــن

لي جابها خمس من مومبي إلى درقبين

شيبة وتائب ولي في الوقت جملة سنين

خائف من الموت عاده قبر ومحاسبين

ما تفيدك إلا عمالك عند رشح الجبيـن

عند انقباض الشمائل وانبساط اليمين

يا الله عسى خاتمة زينة شهادة يقيــن

من قالهـــا فاز يا ســــالم مع الفائزين

 

ومن النماذج الرائعة التي في شعر المعلم عبود بن عمرو الغتنيني – رحمه الله تعالى - التي يظهر من خلالها ذلك الفرد الصوفي الحكيم والخبير بالحياة بشفافية كاملة يتجلى من خلالها الإنسان الصادق في النصح والإرشاد وبيان غوامض الأمور الروحية والمادية التي تؤدي إلى العيش التمام وحسن الختام والتي أحببت أن أختتم بهما مقالي هذا, النموذج الأول قوله :

يـا مرحبا قول من عارف قصى المعذرة

الشيــــــــــخ لي طاف وتفكّر في الآخرة

المــــلك لله لا بغا شي لحد يســــــــره

يا شيــــــخ تفهم كــــــلام الله وتفسّـره

تفهم حديــــــث النبي آياته الباهــــره

لا تشتغـــــل بالغرور في الدنيا الماكرة

دار الفنـــــاء والعناء والعيب والمنكرة

على الآدمي يعتبـــر ينظــــــر للآخرة

ينظر وقوفه نهار البعث بالساهــــــرة

ينظــــر فعاله وينظـــر ما عليه أو له

ويقول هذه عمــــــالي كلهـــا حاصله

وفوين سلطانهـــــا الدولــــــة الطائلة

وين الفقيـــــــه الذي ما تغره العاجلة

هيهــــــــات تفريط بين اليوم والقابلـة

من ما سرى ليـل ما صبّح مع القافلــة

 

أما النموذج الثاني فهو قوله :

المهتيس قال بيـــــت بدي برب الجهه

سبحان من بيده التصريف والملك لـه

خلّق بنادم وله التصريف في طاعتــه

يا بخت من صدّق محمــــــد تبع ملته

مطرود مبعود من خالف ولا صدّقـه

ذلحين قم شل مكتوبـــــي عزم يا ذكه

واقصد سعيدان قل له عند عارف قره

مغبون لي ما فهم درســـــه ولا فسّره

الجهل علّــــة كبيــــــرة والتهم منكره

والظن رأس الخطايا ما معك مخبره

من فعلة إبليس خلى الناس في شنتره

خلّى المياريد من بعد الصفا مكدّرة

الكـــــذب زرعة كما ذرية بلا ماثره

ما حـد يذم المشاخص يا محبي دره

ذا لا ذهب والذهب أبلغ من العنبره

معزوز والعــز من داره وهو كفؤ له

من بعد ذا الدور شا ذا الفصل لا تعبّره

والختم صلوا على الشافع عدد ماطره

والآل والصحب هم والعترة الطاهره

 

والختام .. السلام .

ـــــــــــــــــــــــــــ

مجلة حضرموت الثقافية العدد الثالث عشر , مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر .

نشرة المسرة الثقافية العدد ( العاشر) ,   ملتقى شباب سرار الثقافي الاجتماعي  الريدة الشرقية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا وسهلا زائرنا الكريم يسعدنا كثيرا ان تنشر تعليقاتك واقتراحاتك

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.